"2166 جثة أصاب غالبيتها التحلل".. نقص المشارح ينتهك حرمات الموتى في السودان

"2166 جثة أصاب غالبيتها التحلل".. نقص المشارح ينتهك حرمات الموتى في السودان
الأزمة السودانية

السودان - الفاتح وديدي

 

- الروائح الغريبة كشفت عن 198 جثة مكدسة في حاوية بمشرحة التميز

- قضية الجثمان رقم (356) تتصدر الموضوعات التي يتابعها الرأي العام السوداني

- حقوقي: (حملة مفقود) تقود حملة توعية وتنقذ مصير عشرات الجثث المجهولة قبل دفنها

- محامي أسر المفقودين: طالبنا بفريق دولي محايد لضمان حقوق المفقودين

- الناطق باسم لجنة التحقيق حول اختفاء الأشخاص: هناك أزمة ثقة تواجه مؤسسة الطب العدلي

 

كدأبه في السنوات الأخيرة، كان محمد إسماعيل ودعكر، يلبي واحدة من دعوات المواكب وأمسيات حركة الاحتجاج السودانية، مشاركاً أقرانه شارة النصر وهتاف السلام والحرية.

في خاتمة الفعالية التي التأمت مطلع إبريل من العام الماضي، ودع محمد إسماعيل رفاقه، وبارح ساحة التظاهر المحتشدة بالنشيد والضجيج؛ ميمماً وجهه صوب منزله الهادي بضاحية الجريف غرب، أحد الأحياء القديمة بالعاصمة السودانية، الخرطوم.

الشاب الثلاثيني، المنحدر من أقاصي شمال السودان، لم تكتحل عيناه منذها بمرأى الحي العريق، ولا سائر أفراد أسرته.

وبحسب أمل إسماعيل، شقيقة ودعكر، فإنّ الأسرة حالما شعرت باختفائه، تقدّمت ببلاغ، ثم أصدرت نشرة؛ حوت مواصفاته لتُعمم على كافة أقسام الشرطة والمشارح والمستشفيات.

ظلت الأسرة لقرابة الشهرين تبحث عن ابنها، إلى أن دهمتها أنباء العثور على 198 جثة مكدسة في حاوية بمشرحة التميز، بأحد أحياء جنوب الخرطوم.

تكشفت المأساة عندما تواترت الشكوى من قاطني حي الامتداد بظهور روائح غريبة في أرجاء المنطقة.

وأدّى الواقع الاقتصادي بالبلاد ونقص الوقود للمحطات الحرارية إلى انقطاع التيار الكهربائي في أحياء العاصمة وضواحيها، لفترات طويلة، ما أسهم في تفاقم الأزمة بسبب غياب التبريد عن المشارح.

وفي أواخر مايو 2021، تقول شقيقة ودعكر، "علمنا بوجود جثة متحللة داخل أحد الثلاجات بمشرحة التميّز بالخرطوم، علقت بها بقايا تي شيرت أبيض مخطط شبيه بالملابس التي كان يرتديها محمد، وإكسسوارات في اليدين، تتطابق ومواصفات المدونة الجنائية التي أودعناها أقسام الشرطة". 

ولمزيد من التحقّق طلب الأطباء بمشرحة التميز من ذويه صوراً لأسنان المفقود، ثم إجراء البصمة الوراثية التي تأكد الجميع بعدها أن الجثمان المشتبه به يعود لودعكر.

لاحقاً باتت قضية الجثمان رقم (356) في صدارة الموضوعات التي يتابعها الرأي العام السوداني، فيما غمرت وسائل التواصل الاجتماعي استفهامات متعددة تتساءل: من قتل ودعكر؟ 

واجتاحت الشارع موجة غضب عارمة، إثر الكشف عن الجريمة وافتضاح أمر الجثث المكدسة بطريقة غير آدمية.

وانفتحت جراء الفاجعة ملفات عديدة في مقدمتها قضية الاختفاء القسري وانتهاك حقوق المفقودين وأُسر الضحايا، وأزمة الجثامين المتحللة في المشارح.

ويسود الاعتقاد على نطاق واسع اليوم أن الكثير من الجثث التي تعج بها مشارح العاصمة السودانية تعود في معظمها لقتلى ومفقودي الحراك الشعبي الذي أطاح بنظام الرئيس الأسبق عمر البشير في إبريل 2019.

وأدى فض اعتصام القيادة العامة للجيش في الثالث من يونيو من ذات العام إلى تعميق الأزمة، إذ أُزهقت أرواح العشرات من المواطنين يومها، بحسب مصادر صحية وحقوقية، مثلما اختفى الكثيرون بعدها في ظروف غامضة، بحسب ما أبلغت به الأسر.

وبغاية التضامن مع أسر الضحايا، تضافرت بعض الفاعليات المجتمعية ضمن حراك شعبي كبير أطلق عليه (حملة مفقود)، وهي مبادرة مجتمع مدني، تضم تجمع أسر المفقودين ونشطاء حقوقيين والكثير من النشطاء.

وتضطلع الحملة بمهام البحث والتنقيب في مصير الأشخاص الذين اختفوا في ملابسات غامضة.

وأسهمت الحملة في تحريك مواكب بالشارع احتجاجاً على قرارات حكومية عديدة بدفن الجثث مجهولة الهوية بالمشارح، كما أسهمت في التنوير والتوعية بالقضية، وهو الجهد الذي يصفه الكاتب الصحفي والمدافع الحقوقي فيصل الباقر بكونه "إعادة وضع للعربة، خلف الحصان، للخروج من عنق زجاجة الأزمة المتصاعدة".

                                                                       الكاتب الصحفي فيصل الباقر

ويعتبر الباقر أنّ "ملف هذه القضيّة العدلية والصحية والمجتمعية الحساسة، كاد أن يضيع بين رُكام الجدل العقيم، لولا الانتباهة الذكية لمبادرة مفقود وشركائها".

وأكد الباقر في تصريحات لـ"جسور بوست" أنّ مثل هذه التحالفات، التي تنشأ صغيرة، ومحدودة الأثر، سرعان ما تتحوّل إلى حركة جماهيرية واسعة، "بسبب عدالة المطالب التي تتبناها، وإيمان منظميها بقضيتهم".

وشهدت السنوات الأخيرة إصدار العديد من القرارات بشأن الجثث المتكدسة؛ ففي خواتيم عام 2019، حظرت النيابة العامة بالسودان دفن أيّ جثة مجهولة الهوية من دون تحقيق.

من جهته أصدر عضو مجلس السيادة الانتقالي، رئيس اللجنة العليا للطوارئ الصحية، عبدالباقي عبدالقادر الزبير في إبريل 2021 قراراً بتشكيل لجنة مختصة بدفن الجثث المُتكدِّسة بثلاجات حفظ الموتى، بعد استكمال الإجراءات القانونية والعدلية والإدارية الخاصّة بالطب الشرعي.

ويقول محامي أسر المفقودين، مولانا عثمان البصري: "كانت لدينا تحفظات على قرار مجلس السيادة القاضي بالشروع في دفن الجثث المتكدسة، وطالبنا بفريق دولي محايد لضمان حقوق المفقودين".

                                                                                مولانا عثمان البصري

وتخدم بالعاصمة السودانية منذ سنوات طويلة 3 مشارح؛ تتوزع جغرافياً بين مناطق الامتداد، حيث مشرحة التميز، ومشرحة بشاير الكائنة بحي (مايو) جنوب الخرطوم، والثالثة في مستشفى أم درمان، قبل أن تفتتح في سبتمبر الماضي أكبر مشرحة في ولاية الخرطوم بسعة 450 جثة في محافظة (أمبدة).

وفي يوليو 2021 عزت النيابة العامة السودانية أسباب تكدس الجثث في المشارح إلى ما أسمتها "القرارات غير المدروسة التي قضت بإيقاف التشريح والدفن بالمشارح".

ويُعتقد أن الكثير من ضحايا الاختفاء القسري ما زالوا وسط آلاف الجثامين المكدسة في مشارح العاصمة الثلاث. 

وطبقاً لمدير هيئة الطب العدلي بولاية الخرطوم، هشام زين العابدين، فإن الوضع "مزرٍ للغاية"، مشيراً إلى أنّ السعة الاستيعابية للمشارح يفترض ألا تزيد على 150 جثة، لكنها تضم اليوم 2166، ما يضطرنا لوضع الجثث بعضها فوق بعض".

 

ويتفق الناطق الرسمي باسم (لجنة التحقيق حول اختفاء الأشخاص)، نصرالدين يوسف، مع سلفه في توصيف الوضع بكونه مزريا.

                                                                                          نصر الدين يوسف

 

ويضيف المتحدث باسم اللجنة الحكومية في تصريحات لـ"جسور بوست": "الثلاجات كفاءتها ضعيفة، ونسعى عبر اللجنة لإيجاد من يساهم في استجلاب ثلاجات".

أما محامي أسر المفقودين، عثمان البصري، فيعتبر من جانبه أنّ المشارح غير مؤهلة لحفظ الجثامين.

وتعليقاً على القرار الأخير بتكوين لجنة من عضوية الطب العدلي الحالية لدفن الجثامين، يقول البصري: “هذه القرارات تأتي في سياق إخفاء الأدلّة المتعلقة بالاختفاء”.

وأشار إلى أنّ مجموعة الطب العدلي تقدم معلومات غير صحيحة"، وبالتالي فإنّها أيضاً "غير مؤهلة للاضطلاع بمهمة دفن الجثامين"، بحسب قوله.

وطبقاً للبصري، فإنهم تواصلوا مع بعض الجهات الدولية الحريصة على حقوق الإنسان، كما زار فريق أرجنتيني السودان، وطاف بعدد من الأماكن، منها مقبرة جماعية غرب منطقة أم درمان، لكن الفريق في آخر زيارة له للمشارح، "مُنع من الدخول".

من جهته اعتبر الناطق باسم لجنة التحقيق حول اختفاء الأشخاص، أن حاجز الثقة القائم إزاء مؤسسة الطب العدلي ربما كانت تسنده قرائن وحيثيات.

ويضيف نصرالدين يوسف: "هنالك إشكاليات كبيرة بشأن الطب العدلي كمؤسسة، إذ إن الكادر قليل، كما أن التخصص نادر مقارنة مع تخصصات الطب الأخرى، إضافة إلى أنها -شأن كثير من المؤسسات- ربما جافت العمل بمهنية في فترات النظام البائد، 

 

وطالب الصحفي فيصل الباقر بـ"استعجال إصدار قرار من النائب العام، بالسماح بالاستعانة بفريق طب عدلي دولي مُحترف، ومؤهّل فنيّاً وأخلاقيّاً، للقيام بمهمة الطبّ العدلي، بطريقة صحيحة، تنال ثقة أُسر الضحايا، ليساعد هذا الفريق المهني في عملية التحقُّق من هويّة الجثامين، بفحص وتوفير الأدلّة العلمية المعروفة والمجرّبة، عبر الالتزام بالتقيّد الصارم ببروتوكول (مينيسوتا) العالمي، وهو البروتوكول المعني بمسائل التحقيق في حالات الوفاة التي يُحتمل أن تكون غير مشروعة، والذي اعتمدته الأمم المتحدة دليلاً لمنع تنفيذ عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والتحقيق بشفافية في تلك الممارسات".

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية